الرجل الذي أغلق النافذة

قاسم يوسف

ثمة مسؤولية تاريخية تُلقي بثقلها على كتف المفتي، وهو إذا يحملها ويمشي الهنيهة، يرتطم بالواقع والتاريخ، ويُعيد إلى الأذهان تلك الطائفة التي كانت أمة مبعثرة من دمشق إلى صنعاء، قبل أن يحسم رفيق الحريري هويتها، ويأخذها بحنكته ورويته وشطبه إلى حقيقة لبنان الكاملة، وإلى أولويته التي تتجاوز كل قضية وكل وجدان وكل اشتباك.

يدرك المفتي أن مُصاب قومه بات يوازي الاضمحلال رغم كثرتهم، وأن قيادتهم السياسية تجنح بلا أفق نحو افتعال كوة في جدار لا ينكسر. شعر على حين غرة برهبة الموقف، فقرر على نحو مباغت أن يرسم الخطوط الضامنة. وكأنه يقول دون أن يقول: لقد بلغت قلوبنا الحناجر.

ليس سهلاً على الرجل أن يجلس صامتًا مُحتسبًا في مقاعد الصابرين المتفرجين، وهو إذ ينقض نحو الصفع والرد الخشن، فإنما يستند إلى تلك المسؤولية التي تُحتم عليه الارتعاش والقشعريرة، وكأنها سبيله الوحيد لصون ما تبقى من تلك الرسالة التي حملها وقومه عن طيب نفس وخاطر، قبل أن يعمدوها بدم رفيق الحريري، ذاك الهاجس الذي ما برح يقض مضاجعهم كلما صدح بهم صوت هاربٌ من الرخامة أو الوصية.

يعلم المفتي، ونحن قطعًا في العالمين، أن الخسارة المدوية في سوريا أصابت، في ما أصابت، ذاك العصب الوليد وتلك الفكرة الشهية. فاستحال الحليم يتيمًا. وظل العوام حيارى. وبحث كل ضال فيهم عن ضالته. ثم راحوا يلفظون آخر انفاسهم في عنق الزجاجة. يخرجون ولا يخرجون. وكأنه قدرهم الناجز وواجبهم اللعين.

يقف المفتي تمامًا في خط الدفاع الأول. يحاول أن يمنع الانهيار. أن يحول دون انزلاق لا بد منه. يقف بعِمة مُنهكة ويدين عاريتين وحشرجة لا تخلو من القلق ومن الفزع. حمل الراية المرمية على قارعة التسويات، وراح يتقمص الدور الذي فرّ منه صاحبه. غير آبهٍ لفداحة هذه الكبوة وعميقها. وغير مكترث لتوزيع أدوار أو مهام. الحكاية هنا تجاوزت الصمت والأصول. وبات رفع السقوف يوازي القشة التي تنقذ اسطولاً من الغرق.

أخطأ المفتي وأصاب. مكامن الخطأ أصابت الدولة في مقتلها، وشرعت منطقًا يتجاوز كل قدرة على نسفه أو تطويقه. فيما تمحور الصواب حول مذبحة حطت رحالها فوق جثث المهرولين من ريادة لا يُشق لها غبار إلى قاطفي هزائم وماسحي أحذية على قارعة الصفقات والتسويات.

فتح رفيق الحريري، بحضوره واغتياله، نافذة مواربة على الدولة، ثم أتى ذاك اليوم الذي يستوجب غلقها، وقد أُغلقت إلى الأبد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى