
حين فكرت بالكتابة عن المفتي خليل الميس التقطت أنفاسي. شعرت بمزيج هائل من الغبطة والحماسة والوجل، ثم رحت أستحضر أثره الذي لا يغيب وبصمته التي لا تندمل، فصرت كلما لمست وترًا أو تقصيّت حقيقة بحثت خلفها على أنامله، وقد وجدته دائمًا هناك. هو نفسه الطيب والعبقري وضابط الإيقاع، وهو نفسه من يحلو لنا أن نسميه بركة البقاع.
خليل الميس هو ذاك الإسم الشهيّ الوثير المجرد من الأوصاف والألقاب، وهو تلك اليد الخضراء المتخصصة في ابتكار الحدائق. جسّد في استقامته وزهده وتواضعه واحدة من أسمى وأجزل الصور المكتنزة على الإطلاق، وقد بدا في عفويته وحُسن طالعه وانسياب أفكاره وكأنه فريدٌ لا يشبه إلا قلة قليلة، لنعود وندرك أنه استثناء لا يتكرر.
وهب المفتي قامته وهامته وعقله النيّر وكل عمره للقضية التي تفوقت في أهميتها على بيته وعائلته ونفسه. لم يقطن القصور، ولم يركب السيارات الفارهة، ولم يبحث يومًا خلف الشخصنة أو الصغائر. لبس العمامة فكبرت به، وصارت معه وعلى ناصيته أيقونة وتاجًا وجبلاً، وبحرًا من سكينة لا تنضب.
حمل رسالته ومشى. لم يتعب يومًا ولم يجذع. ظل على الدوام علامة فارقة وشخصية لمّاحة ومتميزة. وظلت عِمته الحد الفاصل بين الحق وسواه. حكايته هي تمامًا حكاية الأزهر في البقاع. ذاك الصرح الاستثنائي الذي انتزعه من ضلعه وزرعه في قلبه، فاستحال على شاكلته: ربيعًا دائمًا على هامش خريف لا ينقضي، وجزءًا لا يتجزأ من كينونته وسماحته ورحابة صدره.
ولد الأزهر وكبر على تلة تكاد أن تلامس الحدود مع سوريا، وقد شكّل في جغرافيته وفي دوره ورسالته ومضامينه تلك المعادلة المستفزة والممنوعة، وهي معادلة طالما لامست حدود الاشتباك المباشر أو الموارب مع الذهنية المتوثبة بوجه كل المتفرعات السنية، سياسية كانت أم عقائدية، قبل أن تنفجر أحدات 11 أيلول وتضع الجميع في عين العاصفة. وحده المفتي كان باردًا يومذاك كاليقين، وكأنه كان يدرك بأن أولئك الذين ترعرعوا على سجيته وفي كنفه هم ملح الأرض وأهلها الطيبون.
قبض المفتي على اعتداله واعتدالنا كمن يقبض على الجمر. لم يجنح نحو الشعبويات أو المنزلقات القاتلة، وظل حاميًا أمينًا وحاملاً ضنينًا لتلك الرسالة الحنيفة. ثم حضر في السياسة من باب التوازن والحق الوطني، رافضًا منطق الاستقواء والخضوع، بينما كنا ننفرز بقضنا وقضيضنا بين غاضبين ومحبطين، وبين ما يشبه الصحوات على الطريقة العراقية.
سنقف اليوم وكل يوم على مقربة من طيفه وظله وبركته. سنرفع له الأقلام والعمائم والقبعات، وسنردد سيرته العطرة على مسامع أولادنا وأحفادنا. سنخبرهم أننا عرفناه وخبرناه وعشقناه، وأننا كنا بعضًا منه وكان بعضًا منا. وهذا وحده يكفينا كل العمر.
للانضمام إلى مجموعاتنا عبر الواتساب اضغط هنا