
لا أذكر أنني تلقيت جوابًا مُباغتًا ومباشرًا كذاك الذي سمعته من جبران باسيل في رده على سؤال محدود توجهت به إليه: لماذا لم يستطع الوجدان السني العارم أن يستوعب أو يتقبل الحالة العونية حتى الآن، بل وبات يكنّ لها ما يتجاوز الضغينة والعداء والقطيعة؟ ابتسم الرجل. ثم راح يُحدثني بتجرد ووضوح، بعيدًا من أي دبلوماسية أو قفازات: السنيّة السياسية آتت على جثة المارونية وسلبت كل حقوقها ومكتسباتها، ونحن نريد استعادتها منهم بشكل كامل.
المفارقة المُستفزة تتعلق بمناسبة اللقاء بحد ذاته، الذي يهدف بحسب القائمين عليه إلى الرغبة بالحوار والانفتاح على الشرائح السنية، لكن هذا الكلام ترك ما يشبه الصدمة والذهول على وجوه الجميع، إذ كيف يصح أن تدعو قومًا لطمأنتهم ولمناقشة هواجسهم وشعورهم بالظلم والخيبة والإحباط، ثم تقول لهم إنك عازمٌ على استكمال ما بدأته، ليس استنادًا إلى مشروع وطني تقدمي أو نهضوي، بل انطلاقًا من ثأر تاريخي تحت عنوان طائفي وسياسي بالغ الدقة وشديد الوضوح.
وددت لحظتها أن أجري اتصالاً عاجلاً بسعد الحريري. أخبره فيه ما أظن أنه يجهله. لكنني تريثت لزوم التفكير وأمانة المجالس، فضلاً عن مسؤوليتي المتواضعة في حماية السلم الأهلي واللُحمة الوطنية وما تمخض عنها من تسويات تاريخية ومن وئام منقطع النظير. ثم استدركت فجأة أن ما قاله جبران باسيل ليس سرًا. هو حاضرٌ منذ سنوات على لسان النخب والعوام. ووحده سعد الحريري من يعيش في عالم منفصل.
يتعاطى سعد الحريري مع اللعبة السياسية الخشنة، ومع التركيبة الفظيعة للنظام، ومع الهجمة الشرسة على الحقوق والصلاحيات والحضور، بعقلية لا تستوي حتى في المدن الفاضلة. حيث يريد لفريقه الوزاري الآتي من ذهنية المجتمع المدني أو من خلفية تكنوقراطية أن ينجح في مواجهة عُتاة السياسة وغُلاتهم على طاولة مجلس الوزراء، وهو نسخة مطابقة تمامًا عن فريقه النيابي، الذي بات يترواح بين أولئك الذين يتعثرون أمام أبسط الأصول الاجتماعية والسياسية، وبين من تم استيرادهم من أحضان علي المملوك، فيما تغيب السياسة ويغيب أهلها لحساب أولئك الذين يبصمون ولا يناقشون.
في غمرة هذا الهوان. يسرح جبران باسيل ويمرح بلا حسيب أو رقيب. داخل مجلس الوزراء وخارجه. من جدول الأعمال إلى مشروع الموازنة. ومن السياسة الداخلية إلى السياسة الخارجية. كنا نظن أنه الرئيس الظل. لنعود ونكتشف أنه صار الحاكم بأمره، بعد أن أثبت تخصصه ونجاحه ونجاعة خياراته في تحقيق الهدف الذي عجزت عنه دول وأنظمة وأحزاب مدججة بالمال والسلاح.
لم تعد القضية مرتبطة بسعد الحريري ولا باستمرار زعامته. وهي تخطت أيضًا مقام رئيس الحكومة وصلاحياته ودوره. وتحولت إلى ما يلامس المخاض الوجودي: إما أن نكون أو لا نكون. وهذا ما يفترض أن يدفعنا نحو الترفع عن المماحكات والصغائر، والذهاب إلى إطلاق مقاومة سياسية ووطنية شاملة تحت عنوان وحيد: حماية اتفاق الطائف، وكبح جماح الانهيار الوشيك.
على هامش هذه المقاومة، رفع سمير جعجع أمس الصوت منفردًا ليطالب الدولة بشخص رئيسها ورئيس حكومتها ووزير خارجيتها بموقف رسمي وإجراءات سريعة وواضحة إزاء قتل مواطن لبناني وخطف رفيقيه على يد عناصر تابعة للنظام السوري في جرود عرسال، لكن أحدًا لم يتحرك أو ينبس ببنت شفة. وكأن الهوية المذهبية صارت ركنًا أساسيًا في عملية الاستهداف الممنهج. وهذا ربما ما دفع أحد الأشخاص المتحمسين إلى الوقوف أثناء اللقاء مع جبران باسيل ليردد على مسامعنا ومسامعه: أنا سنيٌ من مجدل عنجر، وسمير جعجع يمثلني أكثر منك ومن سعد الحريري.
– ليبانون ديبايت