نوابٌ … لا طراطير

قاسم يوسف

سمير الجسر. شخص عاقل وحكيم ومتزن. كان يظن أن رئاسته لكتلة المستقبل باتت مضمونة ومؤكدة، بل ويكاد لا يرقى إليها أي شك أو تنافس، لا سيما عقب ترجل فؤاد السنيورة وابتعاد الصقور أو إبعادهم، ليعود ويصطدم بسعد الحريري الذي ما عاد يثق بأحد، إلا عمته التي أحال إليها رئاسة الكتلة، وأولادها الذين تقاسموا الإدارة المطلقة لتياره ومكتبه وكل سياساته، انطلاقًا من التسوية الرئاسية المشؤومة وما نتج عنها من تسويات وصفقات، مرورًا بالقانون المسخ للانتخابات النيابية، وصولاً إلى التحالفات الفظيعة التي أجهزت على ما تبقى من الحريرية السياسية وخطابها وقيمها ومصداقيتها.

صمت سمير الجسر ورضخ يومذاك، وربما كان صمته مقبولاً ومبررًا، باعتبار أن الترفع عن الشخصنة والصغائر هو رأس مال النبلاء الذين تلهث خلفهم المواقع لا العكس، لكنه عاد وظهر في موقع لا يشبهه. كانت مهمته محصورة بتبرير ما لا يتبرر. حضر جلسة التصويت على الموازنة بعد طلب الحريري، الذي وافق بدوره على المشاركة فيها عقب اتصال من بري، لكن الرجل غير مقتنع بصوابية ما يفعل. طلب الكلام على نحو يريد عبره التوضيح لنا ولنفسه، وإذ به يغرق أكثر، ليس في المشكلة أو الحدث بعينه، بل يغرق في ذاته التي ما اعتادت الطرق الملتوية. لم نعرف حتى الساعة ماذا أراد سمير الجسر أن يقول بالتحديد. كل ما فهمناه أن حضر وتكلم ثم عاد وانسحب معترضًا، وكأنه يُطلق النار على نفسه.

لا يختلف اثنان قطعًا على عدم أهلية سعد الحريري وانفصاله وانفصامه إزاء مجمل الملفات المطروحة، لكن أكثر من يُدهش ويبعث على الريبة والقلق هو هذا الانسحاق الكامل أمامه، وكأن مهمة نوابه ووزرائه ومستشاريه صارت محصورة بالطاعة المطلقة، دون التجرؤ على الاعتراض أو ابداء الرأي، وهذا بحد ذاته طامة كبرى، ومؤشرًا عميقًا على أزمة باتت تتجاوز الأزمات التقليدية، وترقى في كل جوانبها إلى مفترق مركزي يُعيد طرح السؤال الأهم: من نحن؟ وما هو دورنا؟

ما هي المصلحة السياسية بتشريع جلسة نيابية لإقرار الموازنة، فيما لم تحصل الحكومة الجديدة على الثقة بعد، وإذا كان الحضور مبررًا ومطلوبًا استنادًا إلى الانسجام مع الذات ومع المصلحة الوطنية، فما هو الدافع للتصويت ضدها؟ أليست هي نفسها التي صدّعوا بها رؤوسنا باعتبارها الابن الشرعي لسعد الحريري وحكومته وورقته الإصلاحية؟ ثم هل يُعقل أن كتلة بحجم كتلة المستقبل قد تُقدم على تصرف صبياني من هذا النوع في مقابل شارع منتفض وثورة عارمة؟ وأي ماء قد بقي في وجه هؤلاء النواب وهم ينتقلون من ضفة إلى ضفة، ومن إهانة إلى إهانة، وكأنهم مجرد أدوات لا رأي لهم ولا وزن، ومهمتهم باتت محصورة فقط بتقديم فعل السمع والطاعة عند كل استحقاق أو اتفاق تحت الطاولات.

ليس ثمة ما نقوله لهؤلاء. يكفي أن نذكرهم بسمو مواقعهم التي تختصر قرونًا من الحضارة والتطور والقيم، وأن نخبرهم عن أدوارهم ورسالتهم، وعن الأمانة التي يحملونها بالنيابة عن الناس، وهي تفترض حدًا أدنى من الكرامة والاستقلالية وعزة النفس التي ترفعهم إلى مصاف المسؤولية الوطنية والتاريخية، وإلا نزلوا جميعًا منزلة الخدم والطراطير وشهود الزور، والعياذ بالله.

– ليبانون ديبايت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى