العاشق الذي تزوج الجمهورية

قاسم يوسف

فجأة، وفي غمرة رتابة موصوفة، انتقلت بنا الذاكرة وحط بنا الحنين في حضن رجُلين عملاقين. نصرالله صفير، ذاك البطريرك الشجاع الذي أبى أن يستقبل الموت إلا بكامل غبطته وهيبته وسكينته. وريمون إده، ذاك الفارس المُجلى الذي ترجل في العاشر من أيار، بعد أن صار أيقونة وطنية وعنوانًا دائمًا للنبل والاستقامة والبصيرة. وعلى سجية نص بديع كتبه الطبيب الأديب فلاح أبو جودة في صفحات النهار حول سحر المثنى وفرادته في اللغة العربية، كنت أود أن يكون هذا النص مزدوجًا لعاشقيّن عشقا الجمهورية وتزوجاها وفق أعند وأعمق طقوس الأبدية على الإطلاق. لكن نصرالله صفير واحدٌ لا يتكرر.

كان حضوره، ولا يزال، أكبر من المناصب وأطغى من الغياب. حمل الرجل المشعل الثقيل في أحلك ظرف وفي أدق مرحلة، ثم راح يوازن بين ماروناويته العميقة ولبنانويته المتجذرة وبين العروبة المشتهاة، بما يعنيه ذلك من صيغة فريدة طبعت وجه لبنان وحولته من مجرد قطعة جغرافية تتخذ وضعية الحاجز بين كيانيّن توسعيين، إلى رسالة عابقة بأسمى قيم الحرية وأرقى صور التنوع وأعمق مكتسبات الديمقراطية.

ظل نصرالله صفير قابضًا طوال ربع قرن على جرحه وجرحنا النازف. احتوى عذاباتنا المتدفقة ورفض جنوحنا الكاسر نحو الحسم ونحو التقوقع والانعزال. ثم راح يحفر درب خلاصنا بصبره وحكمته وصلابته. وكأنه كان يدرك، وهو يدرك، أن الطلاق مستحيل، وأن حتمية اللقاء تتجاوز كل قدرة على منعه. وأننا سنعود جميعًا إلى حيث ينتظرنا في منتصف الطريق. وقد عدنا حين ضاقت بنا الأرض. فوجدناه هناك. يُعد العُدة لنحسم معًا نهائية هذا الكيان وأولويته وحقيقته التاريخية والجغرافية.

شكّل نصرالله صفير بالنسبة للسواد الأعظم من المسلمين ذاك المعبر الوثير بين عروبتهم الشبقة ولبنانيتهم الضيقة. فيما شذّب بحكمته وبصيرته تلك الاندفاعة المسيحية نحو الانفصال والانسلاخ، وجذبهم بقدهم وقديدهم من القبور التي حفروها لدفن الصيغة والميثاق ونظريات العيش الواحد، إلى طاولات الحوار والتفاهم والتوافق، وإلى استعادة الحد الأدنى من فكرة لبنان الذي لا يُمكن أن يُحلق إلا بجناحيه.

مع رفيق الحريري ووليد جنبلاط وكوكبة مهيبة من المسلمين والمسيحيين، استطاع نصرالله صفير أن يؤسس المدماك الأول للحقيقة اللبنانية، وأن يُثبت بالقول والممارسة أنها فكرة قابلة لحياة طبيعية ومستدامة. وهذا تحديدًا ما دفع القتلة إلى شطب رفيق الحريري من المعادلة السياسية والوطنية، وإلى اغتيال كل من سوّلت له وطنيته الخروج من عنق الأزمة نحو رحابة اللقاء.

هو اسبوع عابقٌ بالغبطة والرهبة والحنين. بدأناه بذكرى رحيل العميد العنيد الذي عقد قرانه على الجمهورية، ثم أوصى أن يُنقش على ضريحه: هنا يرقد ريمون الذي كان على حق. وختمناه بترجل عاشق من رتبة بطريرك. تزوج الجمهورية. ونقش على شواهد قلوبنا وضمائرنا ووجداننا: هنا يرقد نصرالله صفير الذي كان وسيبقى دائمًا على حق.

– ليبانون ديبايت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى