
المحرر السياسي – طامحون
سيُسكب عن هذه المعضلة وحولها حبر وفير. بعضهم سيُعمم الجزع من تعملق الإسلام السياسي، ومن انفلاش نفوذه وتعاظم دوره وركون الناس المكلومة إليه. وآخرون سيذهبون نحو الرد بالمثل، وكأنه اشتباك مبين بين من يأخذ السنة إلى يمين التطرف، وبين من يُحافظ على ليبراليتهم واعتدالهم وانفتاحهم.
ونحن يا سماحة المفتي، ومعنا الكثرة الكاثرة من عموم المؤمنين، نقف تمامًا بين هذا وذاك. نتفاعل مع جرح نازف وهائل في غزة وفي فلسطين، كما تفاعلنا مع المذبحة الرهيبة في سوريا. ومع ثورة الضباط الأحرار في مصر. ومع جمال عبد الناصر وهو يصد العدوان الثلاثي عن كنانة العرب. ومع ياسر عرفات وهو يحمل البندقية وغصن الزيتون. ومع صدام حسين حين دك جورج بوش بغداد بأطنان المتفجرات. ومع رجب طيب اردوغان بوجه انقلاب فتح الله غولن. ومع كمال جنبلاط حين مزّقه حافظ الأسد لأنه رفض دخول السجن العربي الكبير. ومع الشيوعي جورج حاوي. ومع اللبنانوي جبران التويني. وحتى مع السيد حسن نصر الله في حرب تموز. كنا ننتظره على الشاشات. ونكبّر معه وخلفه وهو يردد على مسامع العالم: أنظروا إليها في عرض البحر تحترق.
تفاعلنا مع كل هؤلاء. وتعاطفنا حد الانصهار. تظاهرنا. وناضلنا. وصرخنا. وبكينا. مرة ومرتين وألف. لكننا بقينا حيث نحن. لم تجرفنا العواصف. ولم تُغيّرنا المحن. حتى في أقسى التجارب التي مزقت قلوبنا، واستنفرت عميق مشاعرنا، وانجرفنا معها حتى ظنت الدنيا أن بيننا وبينها وحدة مسار ومصير، ماذا كانت النتيجة؟ لا شيء. لا شيء على الإطلاق.
يكفي يا سماحة المفتي أن تسأل وزراء الداخلية آنذاك. منذ العام 2011 وحتى العام 2016، أي في خضّم الثورة السورية التي ألهبت مشاعر السنّة على نحو غير مسبوق. إسألهم يا سماحة المفتي عن التقارير التي وصلت إليهم. ألم يخبرهم السفير الأسترالي أن عدد الأستراليين الذين شاركوا في الحرب السورية كانوا أكبر بأضعاف مضاعفة من عدد اللبنانيين السنة الذين شاركوا في القتال؟ أستراليا التي تبعد عن سوريا عشرات آلاف الكيلوميترات حج شبابها إلى سوريا بالآلاف، بينما لم يتجاوز عدد الشبان السنة الذين ذهبوا إلى سوريا بضع مئات، رغم كل العوامل المساعدة، من المظلومية التاريخية، إلى النظام العلوي، إلى الحدود المفتوحة، إلى أكبر نسبة مصاهرة في الكوكب، إلى جرح رفيق الحريري الذي يأبى أن يندمل.
هذا هو التضليل بعينه. وهو لأهداف سياسية وسلطوية ما عادت تخفى على أحد. لو كان السنة يريدون الانجراف لانجرفوا منذ فجر لبنان. لكنهم لم يفعلوا. ليس لأنهم عاقلون أو مترفعون. بل لأنها فطرتهم وطبيعتهم وجيناتهم التي ورثوها جيلاً بعد جيل. وليس من باب المصادفة أن لا يكون للسنة زعيم حرب، حتى في عز الحرب الأهلية. شاركوا في الحرب كهواة لا كمحترفين. يكفي أن نلقي نظرة على زعامات الحرب عند المذاهب والطوائف الأخرى، من سمير جعجع إلى وليد جنبلاط إلى نبيه بري وغيرهم، لندرك أن السنة في مكان آخر.
ما يُكتب اليوم يا سماحة المفتي في العلن، كان يُكتب بتقارير مُغلقة فائقة السرية، تُسلم إلى السفارات وأجهزة المخابرات، لتخويفهم من النزعة الاسلاموية والتشددية والتطرفية، ولغايات ما عادت تخفى على أحد، وهؤلاء يفعلون اليوم ما فعله سيء الذكر ميشال سماحة بالأمس القريب، حين ذهب إلى الإليزيه بطلب من بشار الأسد، ليقول للرئيس الفرنسي إذا سقط النظام في سوريا فإن السنة سيأكلون لبنان، وسيُجهزون على ما تبقى من حرية وسيادة واستقلال، وستصير بيروت قندهار المتوسط، وستفقدون آخر بلد فرنكوفوني في الشرق.
يقولون هذا الكلام للإمارات وللسعودية ولمصر وللعرب. ويطلبون منك أن تسلك مسلكهم. وأن تحمل معهم راية مواجهة الإسلام السياسي والحركات الإسلامية التي تبحث عن مقعد لها في لبنان لم تجده منذ سبعين عامًا. يريدون للعالم أن يخاف من رهاب تعملق الجماعة الإسلامية، التي ولدت مصابة أساسًا بإعاقة سياسية واجتماعية دائمة قبل سبعة عقود، وهي كانت وستبقى تبحث عن رفع عدد مقاعدها النيابية من مقعد إلى مقعدين في أحسن الأحوال، ويكفي مراجعة نتائج الانتخابات الماضية، لندرك أن مرشحها الخاسر في دائرة البقاع الغربي مثلاً حصل على نفس عدد الأصوات الذي حصل عليه إيلي الفرزلي، وهو مرشح عن مقعد الأقلية الأرثوذكسية، في دائرة سنية بامتياز، حيث إن عدد الناخبين السنة يتجاوز ثلثي عدد الناخبين في الدائرة.
هؤلاء يا سماحة المفتي لم يعجبهم سعد الحريري ولا شقيقه بهاء ولا فؤاد السنيورة ولا نجيب ميقاتي ولا حتى فؤاد مخزومي، ولم تُعجبهم أيضًا الحركات الإسلامية، ولا الشخصيات والاحزاب المحسوبة على النظام السوري وحزب الله، والآن يعترضون على توثب الأزهر ومشايخ الكرامة الذين طالما عُرفوا باعتدالهم وترفعهم وحرصهم ونقاء سريرتهم. حال هؤلاء يا سماحة المفتي هي حال ذاك الواهم والمشتبه، الذي يظن أنه الحد الفاصل بين الحق وسواه.
السنة في لبنان، بكثرتهم الكاثرة، ليسوا رعاعًا يذهبون أينما ذهبت بهم الرياح، وليسوا قاصرين ليأتي من يُمارس عليهم دور الوصي أو العارف، حتى وإن كان في رصيده أطنان الأبحاث وآلاف الكتب مثل الدكتور رضوان السيد، لكنه في الحقيقة مرتهن لمشروع سياسي، ويمارس دورًا بالغ السلبية والسوء تجاه أهله وناسه ومجتمعه ومؤسسته الدينية، وهو أكثر الناس معرفة أن السنة الذين لم يجرفهم ربيع دمشق نحو التطرف، لن تجرفهم قوة على وجه الأرض، وأن هؤلاء الناس ومشايخهم وفعالياتهم وكبارهم وصغارهم قد اختبروا كل أنواع الظلم والقهر والقلق وخيبات الأمل، لكنهم ظلوا متمسكين بما فُطروا عليه.
سماحة المفتي. لقد أخطأ رضوان السيد، وأخطأ معه من يهمس في أذنه، ومن يقف إلى يمينه وإلى يساره، ليس في أسلوبه النافر وحسب، ولا في طريقته الفوقية وأدبياته المتوعكة، بل حتى في المضامين السياسية والاجتماعية العميقة لمقالته، وقد قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إن الحق لا يُعرف بالرجال، وإنما يُعرف الرجال بالحق.
للانضمام إلى مجموعاتنا عبر واتساب اضغط هنا