
عمر عثمان سلوم – تأملات
عند مشعر منى وفي آخر أيام التشريق، لمح العباس بن عبد المطلب حركة خفية تدور بين أصحاب ابن أخيه، ودفعته خشيته وشفقته ان يتتبع الامر ويعرف سَيره، وصل العقبة وتهيأ الاستماع الى اخطر قرار سيغير تاريخ البشرية.
فبعيداً عن مكة السامرة حول أوثانها، الغارقة في ضلالها وغلوائها، والمستبدة بأفكارها وقبضتها الحديدية، اجتمع سبعون نبيلاً من يثرب، يتألق في عيونهم بريق الحماسة الملتهبة، يقطعها صوت العباس الجهوري: (يا معشر الخزرج إنّ محمدا منّا حيث قد علمتم في عزٍّ ومنعه، وقد أبى إلا الانقطاع اليكم، فإن كنتم ترون انكم توفون له بما دعوتموه اليه ومانعوه فأنتم وذلك، وإن كنتم ترون انكم مسلموه فمن الآن فدعوه).
علا وجه الأنصار من علائم الوجل والتحدي، وقالوا للعباس بكل ثقة (قد سمعنا ما قلت) ثم قالوا (والذي بعثك بالحقِّ لنمنعنك مما نمنع منه ذرارينا، فبايعنا والله لنحن أهل حرب) فبايعهم النبي وأزادهم (أنتم مني وأنا منكم، أسالم من سالمتم، وأحارب من حاربتم).
أدرك العباس أن الأمر جلل، وعيناه تتبعهم وهم ينصرفون الى رحالهم، فهذه الرحال غدا وبعد ليل العقبة سيكون نهار يثرب وستضم رسول الله وآله الى الأبد، لقد بذلوا دماءهم وأموالهم، وفتحوا دورهم، وغبَّرت أقدامهم رمالُ الصحراء وهم ينافحون عنه.
بقيت ذكرى مشاعر منى راسخة عند العباس، حتى بعد سنين وفي يوم محنة حنين صرخ وسط المعركة (يا معشر الأنصار، يا أصحاب العقبة).
ومرَّ الزمان وبقي الوفاء، وُزّعت الغنائم وقسمت الدنيا، وحُرم منها أهل العقبة ولسان حالهم انتهى دورنا، لكنه بدأ، جمعهم أمين النبلاء محمد صلى الله عليه وسلم وقال: (الناس شعار والأنصار دثار،،، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم، والذي نفسي بيده لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.