سوق للمرتزقة في كبرى الحواضر السنية .. وداعش زبون بسيط فيه؟

سامر زريق – طرابلس

عاد طيف تنظيم داعش ليغزو وسائل الإعلام المحلية والدولية من جديد، غداة إعلان الجيش اللبناني عن توقيف خلية مرتبطة بهذا التنظيم الإرهابي مطلع الشهر الجاري. ومن ثم عملية إطلاق النار على السفارة الأميركية من قبل شاب سوري الجنسية كان يرتدي جعبة عسكرية عليها رموز وشعارات داعشية.

وإذا كانت عملية “السفارة” أسهمت في مضاعفة الضغوط على النازحين السوريين، فإن الخلية التي جرى اعتقال أفرادها تعيد تسليط الضوء على مدينة طرابلس، كبرى الحواضر السنية في لبنان، والتي لطالما نظر اليها على أنها بامتداداتها الجيوسياسية نحو الحدود السورية، تشكل بيئة خصبة لمختلف العلامات التجارية الإرهابية. عدا عما تحمله هذه السردية من إسقاط هوياتي ثقيل الوطأة، فإنها لا تعبر حقيقة عن الواقع، إنما فقط عن جزء محدود جداً منه. لكنه الجزء الأكثر إثارة للاهتمام إقليمياً ودولياً لتناغمه مع الحرب العالمية على الإرهاب.

استثمار سياسي

تندرج الخلية التي أعلن الجيش عن توقيفها ضمن ما يعرف اصطلاحاً بـ”الأمن الاستباقي”، والذي دأبت الأجهزة الأمنية اللبنانية على تطبيقه بحزم منذ عقدين ونصف، بحملات متكررة للقبض على خلايا مشابهة. والحال أن خلية واحدة، وبمعزل عن حجمها وقدراتها وحقيقة كونها إرهابية من الأصل، فإنها تكفي للحصول على اهتمام سياسي وإعلامي دولي وإقليمي، وقد تمهد لصفقات سياسية مغرية. لا يحتاج الأمر سوى جولة سريعة عبر محرك البحث “جوجل” للوقوف على مدى اهتمام وسائل الإعلام المحلية والدولية بالخلية المقبوض عليها، والتي لن تهتم بطبيعة الحال بالتحولات التي تعيشها مدينة طرابلس، رغم أنها تثير قلقاً عميقاً لدى النخب الطرابلسية أكثر بكثير من التنظيمات الإرهابية.

علاوة على ذلك، فإن الطابع السياسي الكامن خلف عمليات الأمن الاستباقي يبرز بقوة حينما نقارن الاهتمام الإعلامي بالخلية المعتقلة، بخبر مقتل شاب من مدينة طرابلس منذ أيام قليلة، كان يقاتل مع داعش في العراق، مر بشكل عابر بسبب طبيعة الملف الإشكالية. فهو الضحية الرابعة ضمن مجموعة شبان مثله، اختفوا بشكل غامض، ليتبين أنهم انتقلوا الى العراق منذ نحو سنتين، ولم تقدم الحكومة اللبنانية ولا الأجهزة الأمنية أي معلومات حول هذا الملف، رغم ما أثارته جهات حقوقية متابعة لملف الإسلاميين عن وجود شبهات تواطؤ.

وإذا ما أردنا التعمق أكثر، فإن كل المؤشرات الحيوية تدحض فكرة البيئة الخصبة التي يجري إسقاطها على طرابلس. فمع أنها مدينة محافظة ذات إرث تاريخي وقيمي إسلامي، إلا أن حضور تيارات الإسلام السياسي فيها محدود، حسب ما تظهره خارطة التمثيل السياسي. فمن بين 11 نائباً سنياً في طرابلس وعكار والضنية والمنية، بالكاد ثمة واحد فقط بينهم ينتمي الى واحد من هذه التيارات، التي انطلق الكثير منها من طرابلس بالذات، وهي أصلاً تعد محافظة ولا يوجد ارتباط بينها وبين أي تنظيم إرهابي.

سوق المرتزقة

في المقابل، ثمة الكثير من المؤشرات المقلقة حيال تنامي وجود البلطجية والفتوات في طرابلس وجوارها، والتي بات لها حضور واسع، ودور بارز في توجيه الرأي العام الطرابلسي. وبعضها يجري استخدامه من قبل أطراف عديدة، سياسية وغير سياسية. يعتبر أحد السياسيين الطرابلسيين القدامى أن “التحولات السياسية التي شهدها لبنان غداة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أفضت الى نشوء ما يشبه سوقاً للمرتزقة في طرابلس، تغذى من صناعة البلطجية واستيلاد شبكاتهم، تحت إشراف أطراف سياسية وأمنية”.

ويضيف “من هذا السوق خرج مقاتلو الأحياء وقادة المحاور إبان معارك جبل محسن والتبانة، وأفراد تحولوا فيما بعد الى إرهابيين شرسين مثل شادي المولوي. ومنه خرجت مجموعات جرى تكليفها بحرق السفارة الدانماركية في الأشرفية، والذي كاد يشعل فتنة طائفية حينها، ومجموعات أرسلت للقتال في سوريا. وصولاً الى استخدام هذا السوق في الصراعات السياسية المحلية، وفي أعمال الشغب التي حصلت غداة انتفاضة 17 تشرين في طرابلس، وفي العاصمة بيروت بدفع من جهات معينة”.

وكانت نقطة التحول الأبرز، حسب السياسي نفسه، هي “فترة دعم حكومة حسان دياب للمحروقات والعديد من السلع، والتي أدت الى توسع هذا السوق في إنتاجه لشبكات من المرتزقة، بإشراف سياسي وأمني، سيطرت عملياً على السلع المدعومة، واستفادت من ريوعها الهائلة ومن تحولات الأزمة الاقتصادية، لتشكيل طبقة اجتماعية جديدة يتصاعد تأثيرها باضطراد، في ظل انهيار الطبقة المتوسطة التقليدية من موظفي الدولة وأساتذة الجامعات والمدارس. أما التنظيمات الإرهابية فهي مجرد زبون بسيط في هذا السوق، تتغير علامته التجارية حسب الموضة الرائجة، فكان في البداية يحمل اسم القاعدة، ثم فتح الإسلام في وقت من الأوقات، ثم جبهة النصرة وداعش”.

فقرة من خطبة العيد لمفتي طرابلس والشمال محمد إمام

النموذج الملهم

النقطة الأخطر من وجهة نظر السياسي الطرابلسي العتيق، هي “تحول فكرة البلطجي الى نموذج ملهم لشرائح شعبية واسعة عانت طويلاً من التهميش، الأمر الذي يشكل خطراً يفوق خطر التنظيمات الإرهابية”. ويستدل على ذلك بارتفاع معدلات التسرب المدرسي والبطالة في طرابلس، بالتوازي مع ارتفاع معدلات الجرائم على اختلاف أنواعها، والاعتداء على الأملاك العامة والخاصة على حد سواء. ويعتبر أنه ثمة “فورة غير طبيعية في طرابلس لهذه النماذج، تقتات من انكفاء النخب، ومن هزالة الحضور السياسي وتحوله الى مجاراة الموجة الشعبية وركوب “التراند”. وهذا ما أنتج ثقافة جديدة تتمثل بعمليات إطلاق النار اليومية في إشكالات فردية وعادية، والأخطر منها تنفيذ جرائم ضد أفراد معينين مقابل حفنة قليلة من المال بالكاد تصل الى مائة دولار. ليس تفصيلاً أن يتعرض رئيس بلدية بقاعصفرين الى محاولة اغتيال في طرابلس وليس في أي مكان آخر، وكذلك عملية حرق سيارة إحدى المفتشات التربويات لكشفها ملف فساد، وإحراق مكتب إداري في مدرسة، وجميعها تنطبق عليها تماماً صفة الارتزاق”.

في نظر السياسي العتيق، فأنه “عوض التركيز على تبني معالجة عميقة وفعالة على المدى الطويل لهذا السوق وعلاماته التجارية، تنصرف الأجهزة الأمنية الى التركيز على عمليات الأمن الاستباقي بشكل مبالغ فيه، لأنها تروم الاستفادة من ثمارها السياسية. فضلاً عن أنه لا يمكن فصل المنافع المالية المتأتية من فتوات هذا السوق عن غض النظر الرسمي والأمني إزاءه. ينقل عن أحد أصحاب شبكة كبيرة من المولدات الكهربائية في طرابلس قوله تكراراً أن هناك ضباطاً كباراً يعملون لديه، لأنه يدفع لهم مخصصات شهرية كبيرة”.

وتبدي جهات حقوقية طرابلسي أسفها لـ”اعتقال خلية بتهمة الاستماع الى أناشيد داعشية، في الوقت الذي تشهد فيه قرية صغيرة في عكار، وهي “بزال”، اشتباكات يستخدم فيها أحياناً القذائف الصاروخية، وبين المستهدفين من ينتمون الى الأسلاك الأمنية، دون أن تلقى أي اهتمام. كما أنه في طرابلس نفسها، أدى سوء تفاهم بسيط الى تعرض مقهى مزدحم بالرواد لحضور نهائي دوري أبطال أوروبا، الى إطلاق نار غزير من فئتين على التوالي، ولم تحضر أي جهة أمنية الى المكان رغم سقوط 4 جرحى. حتى أن مطلقي النار حضروا في اليوم التالي مناسبة اجتماعية بشكل عادي”. كل ذلك لا يشكل سوى عينات فقط من واقع صعب ومعقد، تتداخل فيه العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، “لكن داعش تبقى علامته التجارية الأكثر رواجاً”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى