ميشال عون في استواء تجارب العمر

قاسم يوسف – طامحون

كدنا نُصدق، نحن الواهمون الواهنون، أن ضجيج ميشال عون الأقلوي سيخفت لحظة وصوله إلى قصر بعبدا. كان الرهان قائمًا آنذاك على رؤية وطنية مثخنة بالتجارب، وعلى قراءة سطحية لشخصيته وطريقة تفكيره. حيث ظننا، وظن معنا المتحمسون لانتخابه، أن الرجل متعطش لاستعادة التجربة الشهابية، بعد مزجها بصلابة كميل شمعون واستقامة ريمون إدة وشجاعة بشير الجميّل، وهذا وحده كفيلٌ بإحياء المارونية السياسية في إرثها المجرد وفي مضامينها العميقة، وهي التي طالما اصطدمت بكل المشاريع المناقضة للحرية والسيادة والاستقلال، ولنهائية الكيان اللبناني وحقيقته التاريخية والجغرافية، منذ ما قبل الاستعمار الفرنسي، مرورًا بالمد الشيوعي والناصري، وصولاً إلى حافظ الأسد وياسر عرفات ومناحيم بيغن.

كدنا نُصدق أيضًا، أن عتبة الانتخاب ستُشكل الحد الفاصل بين ميشال عون الذي خبرناه وعرفناه على مدى سنوات عجاف، وبين الرئيس القوي الذي سيحمل كرة النار بينما نرتصف جميعًا في ركابه من أجل قيام دولة لا تقوم، وهذا ما يستدعي قطعًا التمايز، وربما الاشتباك، مع حزب الله.

افترضنا بداية أن حزب الله يراوغ ويناور في تزكية الرجل وفي ترشيحه وانتخابه. وقد استندنا في هذا الافتراض إلى جملة من المعطيات الصلبة والقراءات المشروعة. ثم افترضنا لاحقًا أن ذهابه نحو الانتخاب ناجم عن الحرج الذي أرساه دخول سعد الحريري وسمير جعجع على خط التأييد. لنعود ونكتشف متأخرين حجم الخطأ الكبير في التقدير. وهو تقديرٌ أهمل عاملين أساسيين: الأول يتعلق باقتناع ميشال عون الكامل بنجاعة وضرورة تحالف الأقليات في لبنان وفي المنطقة. والثاني يتمحور حول تمهيد الطريق لتوريث جبران باسيل، وهذا بحد ذاته كان الطامة الكبرى.

في زيارته إلى روسيا، ثم في خطابه أمام القمة العربية، بدا ميشال عون أقرب ما يكون إلى نسخة مُنقحة عن أمين عام حزب الله، وهو إذ يحمل الخطاب نفسه والأدبيات عينها، يتمايز في موقعه الرسمي كرئيس ماروني للجمهورية اللبنانية، مع ما يعنيه ذلك من انخراط فظيع في سياسة المحاور، ومن استجابة أفظع لنداء التحالف بين الأقليات، وهو تحالف طالما سعت إليه اسرائيل ونظام الأسدين، قبل أن تبرع إيران في إمساك خيوطه وزمامه، وفي تطويعه لخدمة مشروعها المدمر للنسيج الاجتماعي في المنطقة.

لكن بعيدًا من ذلك كله. ما هي الإضافة النوعية التي قدمها وصول ميشال عون إلى رأس الجمهورية عقب مرور نصف ولايته؟ وما هو الشيء الفعلي الذي تمايز به عن رؤساء ما بعد الطائف؟ وأين أصبحت الدولة التي تاق إليها اللبنانيون وقد قبض حزب الله على عنقها وحولهم جميعًا إلى أهل ذمة يلهثون خلف محاباته وخطب وده؟ ثم ماذا عن الشعارات الكبرى التي تتعلق بالإصلاح ومكافحة الفساد وتدعيم عمل المؤسسات وبسط سلطة الدستور والقانون، ونحن نشهد العجب العُجاب في التعيينات والمحاصصات والصفقات، وليس آخرها خطة الكهرباء، التي يجهد فريقه لتمريرها بعيدًا من مكانها الطبيعي في هيئة إدارة المناقصات.

يظهر ميشال عون في شتاء العمر وكأنه غير معني بكل هذه الوقائع، ولا بتسجيل إسمه في خانة الرؤساء الكبار أو القادة التاريخيين، بقدر ما بدا في استواء تجاربه واحدًا من أبرز المنظرين وأحرص العاملين على خط التقاطع بين الأقليات، مع ما يعنيه هذا التقاطع الهجين من تأمين وصوله إلى حيث وصل، ومن تعبيد الطريق لصهره المتحمس لخلافته، بعيدًا من أهازيج الثوابث الوطنية ومن العناوين الكبرى أو الشعارات الفضفاضة.

كشف ميشال عون باكرًا كل أوراقه وبادر إلى قلب صفحته بنفسه كأحد أسوأ العهود الرئاسية في تاريخ لبنان، فيما أصبحنا جميعًا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن نتداعى إلى رص الصفوف تمهيدًا للمواجهة. وإما أن نستسلم وننتظر وصول جبران باسيل، ذاك الذي تفوّق في إدارة اللعبة على عمه، بعد أن وعدنا أو توعدنا بنسيان كميل شمعون وبشير الجميّل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى