أعطوه رأس الخيط وخذوا ما يدهش العالم

قاسم يوسف

يمضغ إيلي الفرزلي الكلمات. يتذوقها. يتفحصها. يحملها إلى ميزان الذهب. قبل أن يعود ويرميها كرمح في الناصية أو كبستان في الذاكرة. هذا بعضٌ من كله. وكله مزيجٌ من عقل لا يهدأ وقامة لا تتعب وحركة لا تستكين.

قيل إنه ذاك الشقيّ التقيّ. يتصوف كلما ضاقت به الأرض، فيصير كاهنًا من برودة وسكينة ويقين. ثم ما يبرح أن يشتعل كبركان كلما ظن المتفرجون أنه بات ماضيًا مضى، غير مدركين أن أمثاله لا ينامون إلا كما تنام العاصفة.

قيل أيضًا إنه يمسك المِيل ويمسك المِكحل. يستحضر بهما وعبرهما تلك الجدلية التي لا تنتهي بحتمية الالتصاق أو قطعية الانفصال. وهو حيث هو. يبرع في الشيء ونقيضه، فتصير الأشياء بين راحتيه طرية ورشيقة ومُستساغة. متى أراد ابتلعناها. ومتى استاء استحالت شوكة تُدمي حناجرنا، وحنظلاً يوزّع المرارة أينما حطت به الرحال.

يحار البعض في توصيف حالته. يقولون هو أستاذ التاريخ ومُنظّر العقائد. عميق الجغرافيا وعاشق السياسة. خفيف الظل وفائق الحضور. ثم يستدركون: قد تتفق معه أو تختلف، لكنك لن تقابل في حياتك شخصية مُكثفة ومُكتنزة كتلك التي اختصرها إيلي الفرزلي بصورته وحركته ومنطقه، وهو سيبقى على الدوام واحدًا من ألمع الوجوه وأكثرهم إثارة للجدل.

كثيرون هم أولئك الذين حاولوا إقفال بيته، يقول محبوه ومريدوه، لكنه ظل مفتوحًا رغم عصف العواصف واشتداد المحن. يحضر في مطابخ السياسة وعبر وسائل الإعلام وبين صنّاع القرار وكأنه امتداد طبيعي لكبار المفكرين والمنظّرين، من ميشال شيحا إلى شارل مالك، ثم ما يلبث أن ينتقل على نحو مباغت إلى الشارع ليمارس هوايته في العلاقة مع الناس، ولو كان لأحدهم أن يكتب سيرته الذاتية لبدأها قطعًا بالمآتم والأعراس، هناك حيث سجل الرجل رقمًا قياسيًا وغير مسبوق على الإطلاق.

عرفته شخصيًا في غمرة حك الركاب، وقد بدا لي آنذاك وكأنني أشتبك مع ضلعين في أضلاعه، لكنه باغتني بمرونته وهدوئه، ليس فقط لأنه أعرف بحالنا وأحوالنا من ذاك الذي أصرّ على محاورتنا فوق سيل من الورم والضجيج، بل لأنه أيضًا أعقل وأحكم من أولئك الذين كنا نظن أننا بعضٌ من أهل بيتهم وجزء لا يتجزأ من حضورهم وكرامتهم.

هذا كله لا يعفي الرجل من الانتقاد. ونحن سنبقى على طرفيّ نقيض حول مروحة واسعة جدًا من الخيارات الاستراتيجية والمتحركات السياسية والأحداث التاريخية، وهي ستظل أبدًا محط نقاش واختلاف، لكن ذلك لن يحول دون رهاننا على لعب دوره الوازن والمؤثر في إعادة تصويب البوصلة الوطنية، انطلاقًا من تحصين اتفاق الطائف، مرورًا بإقرار قانون جديد للإنتخاب، وصولاً إلى كبح الجنوح الرهيب نحو استعادة الخطاب المتفجر تحت شعارات لا تؤسس إلا للكراهية والدم.

على هامش جلسة لطيفة من جلسات العصف الذهني، قال لي صديقٌ ظريف ولمّاح: كان على سعيد عقل أن يستعين بإيلي الفرزلي لتنفيذ حلمه التاريخي. كان عليه فقط أن يُسلمه رأس الخيط، وأن يتفرّج ونحن معه على لبننة العالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى